فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{فليضحكوا قليلًا} يعني فليضحك هؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحين قليلًا في الدنيا الفانية بمقعدهم خلافه {وليبكوا كثيرًا} يعني مكان ضحكهم في الدنيا وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار والمعنى: إنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة لأن الدنيا فانية والآخرة باقية والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل {جزاء بما كانوا يكسبون} يعني أن ذلك البكاء في الآخرة جزاء لهم على ضحكهم وأعمالهم الخبيثة في الدنيا.
(خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا».
وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنًا أجريت فيها لجرت». اهـ.

.قال أبو حيان:

والأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر، والمعنى: فسيضحكون قليلًا ويبكون كثيرًا، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره.
روي أنّ أهل النفاق يكونون في النار عمرالدنيا، لا يرقأ لهم دمع، ولا يكتحلون بنوم.
والظاهر أنّ قوله: {فليضحكوا قليلًا} إشارة إلى مدّة العمر في الدنيا، {وليبكوا كثيرًا} إشارة إلى تأييد الخلود، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم.
قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون صفة حالهم أي: هم لما هم عليه من الحظر مع الله وسوء الحال، بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلًا وبكاؤهم كثيرًا من أجل ذلك، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا نحو قوله عليه السلام لأمته: «لو يعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلًا» وانتصب {قليلًا} و{كثيرًا} على المصدر، لأنهما نعت للمصدر أي: ضحكًا قليلًا وبكاء كثيرًا.
وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت، ويقوم نعته مقامه، وذلك لدلالة الفعل عليه.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكونا نعتًا لظرف محذوف أي: زمانًا قليلًا، وزمانًا كثيرًا انتهى.
والأول أجود، لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ودلالته على الزمان بهيئته، فدلالته على المصدر أقوى.
وانتصب جزاء على أنه مفعول لأجله، وهو متعلق بقوله: {وليبكوا كثيرًا}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} إخبارٌ عن عاجل أمرِهم وآجلِه من الضحِك القليلِ والبكاءِ الطويلِ المؤدِّي إليه أعمالُهم السيئةُ التي من جملتها ما ذكر من الفرح، والفاءُ لسببية ما سبق للإخبار بما ذُكر من الضحِك والبكاءِ لا لنفسهما، إذ لا يُتصوَّر السببيةُ في الأول أصلًا، وقليلًا وكثيرًا منصوبان على المصدرية أو الظرفية أي ضَحِكًا قليلًا وبكاءً كثيرًا أو زمانًا قليلًا وزمانًا كثيرًا، وإخراجُه في صورة الأمرِ للدِلالة على تحتم وقوعِ المُخبَرِ به، فإن أمرَ الآمرِ المطاعِ مما لا يكاد يتخلّف عنه المأمورُ به خلا أن المقصودَ إفادتُه في الأول هو وصفُ القِلة فقط وفي الثاني وصفُ الكثرةِ مع الموصوف.
يروى أن أهلَ النفاق يبكون في النار عمُرَ الدنيا لا يرقأ لهم دمعٌ ولا يكتحلون بنوم. ويجوز أن يكون الضحِكُ كنايةً عن الفرح والبكاءُ عن الغم وأن تكون القِلةُ عبارةً عن العدم والكثرةُ عن الدوام {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من فنون المعاصي، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدلالة على الاستمرار التجدّدي ما داموا في الدنيا، وجزاءً مفعولٌ له للفعل الثاني أي ليبكوا جزاءً أو مصدرٌ حُذف ناصبُه أي يُجزَون بما ذكر من البكاء الكثيرِ جزاءً بما كسبوا من المعاصي المذكورة. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} إخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الأخرى، وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر فاستعمل في لازم معناه أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر كذا قرره الشهاب ثم قال: فإن قلت: الوجوب لا يقتضي الوجود وقد قالوا: إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لاقتضائة تحقق المأمور به فالخبر آكد وقد مر مثله فما باله عكس.
قلت: لا منافاة بينهما كما قيل لأن لكل مقام مقالًا والنكت لا تتزاحم فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك وتحقق قبل الأمر كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى، وقيل: الأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] ولا يخفى ما فيه.
والفاء لسببية ما سبق للأخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا لنفسهما إذ لا يتصور في الأول أصلًا، وجعل ذلك سببًا لاجتماع الأمرين بعيد، ونصب {قَلِيلًا وأكدى كَثِيرًا} على المصدرية أو الظرفية أي ضحكًا أو زمانًا قليلًا وبكاء أو زمانًا كثيرًا، والمقصود بإفادته في الأول على ما قيل هو وصف القلة فقط وفي الثاني هو وصف الكثرة مع الموضوف، فيروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
وجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء كناية عن الغم والأول في الدنيا والثاني في الأخرى أيضًا، والقلة على ما يتبادر منها، ولا حاجة إلى حملها على العدم كما حملت الكثرة على الدوام.
نعم إذا اعتبر كل من الأمرين في الآخرة احتجنا إلى ذلك إذ لا سرور فيها لهم أصلا، ويفهم من كلام ابن عطية أن البكار والضحك في الدنيا كما في حديث الشيخين، وغيرهما «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» أي أنهم بلغوا في سوء الحال والخطر مع الله تعالى إلى حيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلًا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرًا.
{جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي من فنون المعاصي، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي، و{جَزَاء} مفعول له للفعل الثاني ولك أن تجعله مفعولًا له للفعلين أو مصدر من المبني للمفعول حذف ناصبه أي يجزون مما ذكر من البكاء الكثير أو منه ومن الضحك القليل جزاء بما استمروا عليه من المعاصي. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
تفريع كلام على الكلام السابق مِن ذِكر فَرحهم، ومِن إفادة قوله: {قل نار جهنم أشد حرًا} [التوبة: 81] من التعريض بأنّهم أهلها وصائرون إليها.
والضحك هنا كناية عن الفرح أو أريد ضحكهم فرحًا لاعتقادهم ترويج حيلتهم على النبي صلى الله عليه وسلم إذْ أذن لهم بالتّخلّف.
والبكاء: كناية عن حزنهم في الآخرة فالأمر بالضحك وبالبكاء مستعمل في الإخبار بحصولهما قطعًا إذ جعلا من أمر الله أو هو أمر تكوين مثل قوله: {فقال لهم الله موتوا} [البقرة: 243] والمعنى أنّ فرحهم زائل وأنّ بكاءهم دائم.
والضحك: كيفية في الفم تتمدّد منها الشفتان وربّما أسفرتا عن الأسنان وهي كيفية تعرض عند السرور والتعجّب من الحُسن.
والبكاءُ: كيفية في الوجه والعينين تنقبض بها الوجنتان والأسارير والأنف.
ويسيل الدمع من العينين، وذلك يعرض عند الحزن والعجز عن مقاومة الغلب.
وقوله: {جزاء بما كانوا يكسبون} حال من ضميرهم، أي جزاء لهم، والمجعول جزاء هو البكاء المعاقب للضحك القليل لأنّه سلب نعمة بنقمة عظيمة.
وما كانوا يكسبون هو أعمال نفاقهم، واختير الموصول في التعبير عنه لأنّه أشمل مع الإيجاز.
وفي ذكر فعل الكَون، وصيغة المضارع في {يكسبون} ما تقدّم في قوله: {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [التوبة: 70]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
والضحك هو انفعال غريزي فطري، يحدث للإنسان عندما يقابل شيئًا يسره، أو أحداثًا يجد فيها مفارقة لم يكن يتوقعها. أما البكاء فهو انفعال غريزي أيضًا تجاه أحداث تدخل الحزن أو الشجن، وهو تذكر ما يحزن بالنسبة للإنسان. كلتاهما ظاهرتان فطريتان، أي أنهما تحدثان بفطرة بشرية واحدة بالنسبة للناس جميعًا، ولا دخل فيها للجنس أو اللون أو البيئة، فلا يوجد بكاء روسي وبكاء أمريكي، أو ضحك روسي وضحك إنجيلزي، أو ضحك شرقي وضحك غربي. ذلك أن الضحك والبكاء انفعال طبيعي موحد لا تؤثر فيه البيئة ولا الثقافة ولا الجنس. وقد أسنده الحق تبارك وتعالى لنفسه. فكما قلنا: إن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يحيي، وهو سبحانه وحده الذي يميت. فهو سبحانه وحده الذي يضحك، وهو سبحانه وحده الذي يبكي. مصداقًا لقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 43-45].
ولذلك فالضحك والبكاء يأتيان بل مقدمات، لا أقول لنفسي: سأضحك الآن فأضحك، ولا أقول: سأبكي الآن فأبكي؛ لأن هذا انفعال غريزي لا دخل للإرادة ولا للاختيار فيه. ولكننا أحيانًا نلجأ إلى التضاحك أو إلى التباكي وهو مجرد ادعاء بلا حقيقة. ويكون ظاهرًا فيه الافتعال. فحين يروي لك إنسان نكتة سخيفة، والمفروض أنه قالها لتضحك، ولكنها لا تضحك، وفي نفس الوقت أنت تريد أن تجامله فتفتعل الضحك، أي تضحك بافتعال. وكذلك البكاء فيه افتعال أيضًا مثل بكاء النادبة التي تجلس وسط أهل الميت وتبكي. وقد تضع بعض نقط الجلسرين في عينيها لتفتعل الدموع، وهذا كله افتعال. أما الضحك والبكاء الحقيقي، فأمران بالفطرة يملكهما الله سبحانه وتعالى وحده.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} جاء بعد قوله: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله} أي: أنهم فرحوا عندما بَقَوْا هم في المدينة، وخرج المؤمنون للجهاد. جلسوا في حدائق المدينة وهم فرحون في راحة وسرور يضحكون؛ لأنهم يعتقدون أنهم قد فازوا بعدم اشتراكهم في الجهاد. ولكن هذا الضحك هو لفترة قليلة. وسيأتي بعدها بكاء وندم لفترة طويلة وأبدية، عندما يدخلون جهنم والعياذ بالله.
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} ولم يقل: سيضحكون قليلًا وسيبكون كثيرًا، لماذا؟
نقول: عندما يُسند الفعل إلى المخلوق الذي يعيش في عالم الأغيار، والمختار في عدد من أفعاله، يُحتمل أن يحدث أو يجوز ألا يحدث. ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: {فَلْيَضْحَكُواْ} أي: أمر بالضحك، ثم يجيء في البكاء ويقول: {وَلْيَبْكُواْ} أي: ابكوا والأمر بالضحك والبكاء هو أمر اختياري من الله سبحانه وتعالى، تجوز فيه الطاعة وتجوز فيه المعصية؟
إذا كان كذلك، فهل سيطيع المنافقون أمرًا اختياريًا لله؟ ونقول: إن ذلك أمر غير اختياري؛ لأن الحق سبحانه هو وحده الذي يضع في النفس البشرية انفعال الضحك أو انفعال البكاء للأحداث.
وكما بيَّنا فإن الإنسان لا يستطيع الانفعال بالضحك أو البكاء.
والحق حين يقول: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا} معناها: أن انفعال الضحك قضاء عليهم لابد أن يحدث. وإذا قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} فلابد أن يبكوا؛ لأن انفعال البكاء مكتوب عليهم من الله، وكما يقولون: إن الذي يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا، وكذلك الذي يبكي أخيرًا يبكي كثيرًا.
إذن: فالأمور كلها مرهونة بالخاتمة. فقد يأتي للإنسان حادث يسرّه، ثم تأتيه ساعة بؤس تمحو هذا السرور كله، والعكس صحيح. وإذا كان هؤلاء المنافقون قد ضحكوا قليلًا في الدنيا. فعمر كل منهم في الدنيا قليل؛ لأنه حتى وإن عاش في الدنيا ضاحكًا طوال عمره فكم سيضحك؟ أربعين سنة؟ خمسين سنة؟
إن كلاّ منه له في الدنيا مدة محدودة، فأنت إذا نسبت الحدث إلى الدنيا على إطلاقها فهو قليل. وإذا نسبته إلى عمرك في الدنيا فهو أقل القليل، ثم تأتي الآخرة بالخلود الطويل الذي لا ينتهي، ويكون بكاء المنافق فيه طويلًا طويلًا.
ولذلك فلابد لكل إنسان ان يضع مع المعصية عقوبتها، ومع الطاعة ثوابها؛ لأن الإنسان قد يرتكب المعصية لإرضاء شهوات نفسه، وساعة ارتكاب المعصية فهو لا يستحضر العقوبة عليها، ولو أنه استحضر العقوبة لامتنع عن المعصية. فالسارق لو استحضر ساعة قيامه بالسرقة، أنه قد يضبط، وقد يحاكم وتقطع يده، لو تأكد من هذا فلن يسرق أبدًا. ولكنه يقوم بالسرقة لأنه يعتقد أنه سيفلت من العقاب. وما من لص خطط لسرقة وفي باله أنه سيضبط، بل يكون متأكدًا أنه سيسرق ويفلت.